الأمومة أن تُفكِّر الأم في مصلحة ولدها، وتتصرَّف وفق هذه المصلَحة، وعلينا أن نُكثِّف حملتنا الإعلامية لتكريس هذا المفهوم، وأن نَستعمِل في سبيل هذه الغاية النبيلة كافة الحجج والبراهين والأدلة من الآيات والأحاديث التي تُشدِّد على أن الأم مَسؤولة عن رعيتِها تلك، وأن رعايتها لأولادها مقدَّمة على أي عمل آخر، وعلينا أيضًا أن نَحشُد القصص والوقائع الحقيقية لهؤلاء الأمهات، حتى نُبيِّن لهم الخطورة المترتبة على خروجهِنَّ، وعلينا أن نجمع لهن أقوال علماء النفس عن العقد والمشكلات التي حلَّت بالأطفال الذين حُرموا حنان وعطف ورعاية أمهاتهم، وأنا أطمع في إستجابة هؤلاء الأمهات، لأنهن -على الأغلب- المثقفات والواعيات، والتربية التي نُريدها نحن المسلمين لا تقوم بها إلا الأم التي تتمتَّع بهذه الصفات.
وقد يُخيَّل للأم تلك أنها إن لم تتدارك نفسها فتدرس أو تعمل، فإن المجد سيفوتها، لأنها تتقدَّم في العمر! أما الأولاد فهم صغار وما زال المستقبَل أمامهم، وهو لهم وحدهم، فلتبدأ بنفسها ثم يحين دورهم! وإن الأم الحقيقية لتُدرك تمامًا أنها قد تُحطِّم ولدها وتُدمِّره لو فكرت بهذه الطريقة، لأن فقدانه لحنانها وتوجيهاتها سيَجعله إنسانًا يائسًا، أو شابًّا تافهًا، أو امرأً فاشلاً، أو فردًا مُنحرفًا، ولذا فهي تَنسى نفسها، لأنها أمٌّ، وهذا ما يميز الأم عن غيرها، فهي تُفضِّل مصلحة ولدها، ولو أثر ذلك على مصلحتها، وتقدِّم مستقبله على مستقبلها، ولو أخَّر ذلك نجاحها، فإن نجاح ولدها نجاح لها، ومفخَرة لشخصها، ودليل على فضلها وحسن سياستها.
تقول امرأة غربية مجرِّبة: أنا إنتقلت إلى عالم الأمومة بعدما مارستُ مهنة الصحافة، وكنت أنوي العودة إليها حالَما أجد أحدًا يشغل مكاني في المنزل، لكني إكتشفت أنه ليس في إمكان أحد أن يشغل مكاني فعلاً، وسرعان ما أصبحَتِ الكتابة الوحيدة التي يتيح لي وقتي إنجازها هي لائحة عَجْلى بالبقالة التي أحتاج إليها، واليوم أنا أرى أن البقاء في المنزل مع الأولاد أجزل مكافأة وإثارة للتحدي من أي عمل في المكتب، فالوظيفة ليست سوى وظيفة، في حين مرَّت فترة كنت فيها وولدي نعني كل شيء أحدنا للآخر، أأطلب الشهرة؟ كنت أشتهر بمجرَّد نجاحي في خبز كعكة لذيذة! أأطلب الثروة؟ كنت أشعر بالثراء كلما اصطحبتُ ولدي إلى حانوت لشراء أكواب الجيلاتي! أأود التقدير؟ لقد مرت فترة منحتني فيها عبارة تقول أمي السلطة في جميع الميادين، الآن فقط أدرك أهمية تلك المُهمَّة، فما فعلتُه أو لم أفعله سيؤثر فيهما طوال حياتهما، وليس في طاقتي أن أرجع إلى الوراء وأؤدي أي عمل من جديد... الآن اتَّسع وقتي لمِهنتي من جديد، لكن ما يعكِّر هذه الحرية هو الشعور بأننا خسرنا أفضل أدوار حياتنا، فالأبوة رفقة يصحبها توافق فريد بين الإمتياز والمسؤولية، وهي تمنَح المرء وضعًا يَسمو به فوق المركز الإجتماعي والسلطة والثراء، وتزداد الأبوة رهبة إذ نُدرِك إستحالة الرجوع عنها، فأولادنا لا يحملون مقوماتنا الوراثية فحسب، بل مثُلَنا أيضًا، فلا يَسعنا أبدًا الرجوع إلى البداية، فِلْذَتَانَا يحملان دمغة لا تُمحى عن حياتنا البيتية المشتركة، وهذه الدمغة ثابتة إلى حد أن جانبًا منها سينتقل إلى أولادهما وإلى أولاد أولادهما -مجلة المختار كانون الأول 1986.
وتؤكد أمٌّ أخرى أن لا أحد يُغني أولادها عنها: أنا كنت أبحث عن شخص محبٍّ حَنون يتمتع بروح النكتة وبحيوية ونشاط، شخص يشجع روح الإبتكار في ولديَّ ويَصطحِبُهما في نزهات مشوقة، ويجيب عن أسئلتهما الصغيرة كلها، ويُهدهِدُهما حتى يغفوَا، وتوصلت ببطء إلى إدراك مذهل: الشخص الذي أبحث عنه هو بين يدي، وأنا أسعى يائسة إلى إستخدام نفسي"!
ويُعتبَر الطفل في اليابان منذ مولده الملك غير المتوَّج، ومركز العناية في الأسرة، فتترك الأم عملها فورَ ولادته، وتتفرَّغ له فلا تتركه مطلقًا، وتُلبِّي كافة إحتياجاته وتلاعبه وتحادثه وتغدق عليه كل الحنان والمحبة، وتشير عليه بالنصيحة والرأي، وتظهر نتيجة هذه التربية بوضوح عندما يَكبر الياباني، فإذا هو إنسان ناجح مُنضبِط تمامًا يَحترم قوانين المجتمع... -السفير: عبد الفتاح محمد شبانة، اليابان العادات والتقاليد وإدمان التفوق ص32.
أفتُدرِك الأمهات غير المسلمات أهميةَ التربية، وتلمس بصماتها وأثرها في عقول وقلوب أبنائها، فتتخلى عن مستقبلها وتتمسَّك بأولادها مهما كانت خسارتها، ونُهمِل -نحن المسلمين- هذا الجانب ونغفُل عنه رغم توصيات نبيِّنا صلى الله عليه وسلم؟!
الكاتب: عابدة العظم.
المصدر: موقع منبر الداعيات.